سنتجاوز موضوع الموازنة؛ لأنه سيأتينا ضمن موانع وقوع الوعيد؛ إذ سيأتي منها فعل الحسنات والتكفير بالمصائب، وسنكمل هنا الكلام عن حجج الفريق الآخر القائل بأن العبد يشترط عليه أن يكون صادقاً في توبته الأولى، فإن عاد فارتكب ذنباً فإنه يحتاج إلى توبة أخرى، ولكن لا يؤاخذ بإثم الأول والآخر، وهذا القول هو الأقرب والأظهر إن شاء الله. قال رحمه الله تعالى: (فصل: واحتج الفريق الآخر -وهم القائلون بأنه لا يعود إليه إثم الذنب الذي تاب منه بنقض التوبة- بأن ذلك الإثم قد ارتفع بالتوبة)، فإذا اتفقنا على أن التوبة كانت مستوفية مستكملة للشروط؛ فقد ارتفع بها الإثم الأول (وصار بمنزلة ما لم يعمله وكأنه لم يكن) وقد جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث حسن أنه قال: (
التائب من الذنب كمن لا ذنب له )، وهذا الحديث ذكره -أيضاً-
ابن حجر في نفس الموطن. إذاً: فهؤلاء يقولون: كأنه لم يكن الذنب الأول، وقالوا: (وإنما العائد إثم المستأنف) لا الماضي، أي أنه يؤاخذ بالذنب الذي وقع منه بعد توبته فحسب. قال رحمه الله تعالى: (ولا يشترط في صحة التوبة العصمة إلى الممات) أي أنهم قالوا للفريق الأول: على كلامكم أنه لابد من أن يستمر في التوبة كأنكم تقولون: إن كل من تاب يجب أن يُعصم من الذنوب إلى أن يموت. وهذا لا يمكن ولا يشترط، وهو صعب محال، بل إذا ندم وأقلع وعزم على الترك محي عنه إثم الذنب بمجرد ذلك. أي أنه في الإسلام يتصور أن الإنسان إذا أسلم لا يرجع إلى الكفر أبداً، لكن في الذنوب الأخرى يقل عدم المعاودة، لا نقول: يقل عدم المعاودة، إنه لا يمكن إلا أن يعود، لكنه نادر، والغالب على الناس الوقوع في الخطأ. قال رحمه الله تعالى: (قالوا: فليس هذا كالكفر الذي يحبط الأعمال؛ فإن الكفر له شأن آخر، ولهذا يحبط جميع الحسنات، ومعاودة الذنب لا تحبط ما تقدمه من الحسنات) ففرق بين الكفر وبين بقية الذنوب. ثم قالوا: (والتوبة من أكبر الحسنات)، فنحن اتفقنا على أن التوبة من أعظم الأعمال الصالحة، واتفقنا على أن التائب عند الله بمنزلة عظيمة، ورب معصية أورثت ذلاً وانكساراً بسب التوبة خير من طاعة أورثت عزاً واستكباراً، فالتوبة نفسها حسنة عظيمة (فلو أبطلتها معاودة الذنب لأبطلت غيرها من الحسنات)؛ لأنها حسنة، فلو أبطلت المعاودة هذه الحسنة لأبطلت حسنات أخرى كالصيام والصلاة والصدقة وغير ذلك، وهذا باطل قطعاً؛ بل هو مشبه لمذهب
الخوارج وأمثالهم؛ لأن مذهب
الخوارج أنه إذا ارتكب كبيرة كفر، وقال
المعتزلة إذا ارتكب كبيرة وجب له الخلود في النار. فلا يقولون بكفره، ولكن يقولون: هو في منزلة بين الكفر والإيمان. وهو معنى قولهم: (في منزلة بين المنزلتين)، فهذا الكلام يشبه كلام هؤلاء الذين نتفق نحن جميعاً -
أهل السنة - على أن مذهبهم باطل وأن
أهل السنة منه بُرآء. واستشهد هؤلاء بالآية الكريمة: ((
إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا ))[النساء:40]، فلو حوسب الذي عاد في الذنب بعد أن تاب منه وبطلت توبته منه؛ لما بقيت له ذرة ولا دون ذرة. قال رحمه الله تعالى: (قالوا: وقد ذكر الإمام
أحمد في
مسنده مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم: (
إن الله يحب العبد المفتن التواب )، قلت: وهو الذي كلما فتن بالذنب تاب منه) يعني أن المفتن التواب هو الذي كلما وقع منه الذنب تاب منه، وهو حديث حسن. قال رحمه الله تعالى: (فلو كانت معاودته تبطل توبته لما كان محبوباً للرب). وهذا الحديث يوضح المراد في الحديث الأول الوارد في العبد الذي كلما أصاب ذنباً استغفر، وفي الثالثة قال الله له: (
اعمل ما شئت فقد غفرت لك )، فمعناه: كلما تذنب فتتوب أغفر لك. وليس معناه: اترك الطاعات وارتكب الموبقات، بل: إذا كان حالك أنك كلما أذنبت استغفرت؛ فاعمل ما شئت واستغفر، فأنا أقبل توبتك وأغفر لك. وهذا من كمال فضله تبارك وتعالى وجوده وإحسانه. قال رحمه الله تعالى: (قالوا: وقد علق الله تعالى قبول التوبة بالاستغفار وعدم الإصرار دون المعاودة). هذا فقه عظيم ودقيق، ففرق بين الإصرار على الذنب وبين المعاودة إلى الذنب، فالمصر عليه مستمر لا يفكر ولا يبالي، أما من تاب وندم ثم غلبته الشهوة والشيطان فوقع فليس كالمصر. فقال تعالى: ((
وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ))[آل عمران:135]. ففي الآية الكريمة ذكر الله تعالى قيد الإصرار مع العلم، أما إذا لم يصر، بل تاب وندم وأقلع ثم غلبه الشيطان بعد ذلك؛ فهذا حال آخر. قال رحمه الله تعالى: (قالوا: وأما استمرار التوبة فشرط في صحة كمالها ونفعها لا شرط في صحة ما مضى منها) فقول
عبد الله بن المبارك بإذابة الجسد الذي نبت من الحرام بالهم والحزن وإذاقته ألم الطاعة كما ذاق الشهوة ولذة المعصية، المقصود به أن تستمر لديك التوبة، وتنتفع بأثر التوبة وتكتمل لديك حقيقة التوبة، وليس المقصود أنها تبطل لو أن العبد عاود الذنب، فالمطلوب في التوبة الاستمرار فيها ليحصل أثرها ومنفعتها، وهي تزكية القلب وترقيقه وإخضاع النفس لله؛ لأن هذه النفس بطبيعتها أمارة بالسوء حريصة على أن توقع بك، ومعها الشيطان والهوى، فإذا اجتهدت وحرصت فإنك بهذا تبلغ -إن شاء الله- ما تريد، فاستمر على التوبة لتحصل لك الفائدة المرادة المطلوبة، فهذا أمر وكونها تحبط بالمعاودة أمر آخر، فكلام
ابن المبارك شرط في تمام نفعها. قالوا: (وليس كذلك العبادات كصيام اليوم وعدد ركعات الصلاة؛ فإن تلك عبادة واحدة). أي: لا تقاس التوبة على مثل اليوم إذا صامه وأفطر فيه؛ لأن صيام اليوم متصل مع بعضه، وهذه ناحية فقهية عند
ابن القيم ، فالمطلوب منك شرعاً أنك تصوم اليوم من طلوع الفجر الصادق إلى غروب الشمس، فإذا أكلت في أثناء هذا اليوم عامداً فما صمت؛ إذ إنك ما أتيت بالعبادة المطلوبة، وهذا بخلاف التائب من ذنبه الأول، فهو يقول: أنا أتيت بالعبادة المطلوبة، وهي أنني ندمت وأقلعت وعزمت على ألا أعود، وتحللت من صاحب المظلمة، فأديت العبادة كاملة، وبعد مدة وقعت مرة أخرى. فيقال له: هذا كما لو أنك صمت يوماً من رمضان كاملاً ثم أفطرت اليوم الذي بعده، فصومك الأول طاعة وإفطارك في الثاني معصية، فانفصلت هذه عن هذه، فهو يقول: القياس ليس كما تظنون، فالعمر كله محل للتوبة، وهذا صحيح، لكن لا يعني ذلك أن التوبة تستمر فيه مطلقاً كما يستمر الصائم في الإمساك عن الطعام والشراب إلى غروب الشمس، فالمقصود أنك تتم الطاعة بعينها، ومن الطاعات ما تتمها وتفعل بعد ذلك ما ينقضها أو يخالفها أو يحبطها. قال رحمه الله تعالى: (فهي عبادات متعددة بتعدد الذنوب، فكل ذنب له توبة تخصه، فإذا أتى بعبادة وترك أخرى لم يكن ما ترك موجباً لبطلان ما فعل). فهذه قاعدة عامة، ونحن نعلم أن الإيمان شعب، وأنه يزيد وينقص، وأن العبد يجتمع فيه طاعة ومعصية وإيمان ونفاق، فقد تجد من يحافظ على الصلوات والحج والصيام والنفقة وهو مع ذلك عاق لأمه أو أبيه أو كليهما، أو يسيء إلى الجيران، أو يأكل المال الحرام، وفي المسجد كأنه من الأوابين، وقد يكون العكس، فقد ترى الرجل يقصر في صلاة الجماعة، ولكن لو جئت إلى باب الصدقة والنفقة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لرأيت منه عجباً وكأنه من الموقنين، فلو أن كل من فعل معصية بعد طاعة أو قصر فيها أبطلها ما بقي لأحد حسنة ولا طاعة. قال رحمه الله تعالى: (ونكتة المسألة أن التوبة المتقدمة حسنة، ومعاودة الذنب سيئة، فلا تبطل معاودته هذه الحسنة، كما لا تبطل ما قارنها من الحسنات). فلو أن إنساناً كان على ذنب من الذنوب -كالغش في البيع- ثم تاب منها، وفي نفس الوقت الذي تاب فيه وكسب هذه الحسنة صلى وصام وتصدق، وبعد ذلك عاد إلى الغش في البيع؛ فإن هذا الغش الأخير لا يبطل التوبة منه أولاً، كما أنه لا يبطل ما قارنها، فلا يبطل الصلاة ولا الصدقة ولا الإحسان، وإنما هذا يحاسب عليه وذاك يحسب له، وتكون الموازنة بين السيئات وبين الحسنات.